تعاليم يحيى بن زكريّا عليه السلام

بسم الله الرحمن الرحيم

روى الترمذي، واللفظ له، وأحمد والنسائي والطبراني.

عَن الحَارِث الأَشْعَرِيّ، أنَّ النّبيَّ ﷺ قال: "إنَّ الله أمرَ يحيى بنَ زَكَريَّا بِخَمْسِ كَلِماتٍ أن يَعْملَ بها، ويَأْمُرَ بني إسرائيلَ أنْ يَعْملُوا بِها، وإنَّهُ كادَ أنْ يُبْطئَ بِها، قال عيسى: إنَّ اللهَ أمركَ بِخَمْسِ كَلِماتٍ لِتَعْملَ بِها، وتَأمُرَ بَني إسرائيلَ أنْ يَعْملُوا بِها، فإمَّا أن تأمُرَهُم، وإمَّا أن آمُرَهم. فقال يحيى: أخْشى إنْ سَبقْتَني بِها أن يُخْسفَ بي أو أُعَذَّبَ، فجمعَ النَّاسَ في بيتِ المَقْدِسِ(1)، فامْتلأَ وقَعدُوا على الشُّرَفِ(2)، فقال: إنَّ اللهَ أمَرني بِخَمْسِ كَلِماتٍ أن أعْملَ بِهنَّ، وآمُرَكُم أن تَعْملُوا بِهنَّ، أوَّلُهُنَّ: أنْ تَعْبُدوا اللهَ ولا تُشْرِكوا به شيئًا، وإنَّ مَثلَ مَن أشْرَكَ بالله كَمَثلِ رجلٍ اشْتَرى عَبْدًا من خالِصِ مالِه بِذَهبٍ أو وَرِقٍ، فقال: هذه دَارِي وهذا عَملي، فاعملْ وأدِّ إليَّ، فكان يَعْملُ ويُؤدِّي إلى غيرِ سَيِّدهِ، فأيُّكُمْ يَرْضَى أنْ يكونَ عَبْدُهُ كذلكَ؟ وإنَّ الله أمَركُم بالصَّلاةِ، فإذا صَلّيْتُمْ، فلا تَلْتَفتُوا، فإنَّ الله يَنْصِبُ وجههُ لِوَجهِ عَبْدِه في صلاتِه ما لم يَلْتفِتْ، وأمَرَكُم بالصِّيامِ، فإنَّ مَثلَ ذلكَ، كَمَثلِ رجلٍ في عِصابةٍ معه صُرَّةٌ فيها مِسْكٌ، فكلُّهُم يَعْجَبُ أو يُعْجِبُه رِيحُها، فإنَّ رِيحَ الصَّائمِ أطْيبُ عِنْدَ اللهِ مِن رِيح المِسْكِ، وأمرَكُم بالصَّدقةِ، فإنَّ مَثلَ ذلكَ كَمَثلِ رَجُلٍ أسَرهُ العَدُوُّ، فأوْثقُوا يَدهُ إلى عُنقِه، وقَدَّمُوه لِيَضْربُوا عُنقهُ، فقال: أنا أفْدِيهِ مِنْكُم بالقليلِ والكَثيرِ، ففَدى نَفْسَهُ منهم، وأمَركُم أنْ تَذْكُرُوا الله، فإنَّ مَثلَ ذلكَ كمَثلِ رجلٍ خَرجَ العَدُوُّ في أثَرِه سِراعًا، حتَّى إذا أتَى على حِصْنٍ حَصِينٍ، فأحْرزَ نَفْسَه منهم، كذلك العبدُ لا يُحْرِزُ نَفْسَه من الشَّيطانِ إلَّا بذِكْرِ اللهِ". قال النّبيُّ ﷺ: "وأنا آمُرُكُم بِخَمْسٍ، اللهُ أمَرني بِهِنَّ: السَّمْعُ والطَّاعةُ والجِهادُ والهِجْرةُ والجَماعةُ، فإنَّهُ من فارقَ الجماعةَ قِيدَ شِبْرٍ، فقد خَلعَ رِبْقةَ الإِسلام من عُنقِه إلّا أنْ يُراجع، ومن ادَّعَى دَعوَى الجاهِليَّةِ، فإنَّهُ من جُثَى جَهنَّمَ. فقال رجلٌ: يا رسولَ اللهِ وإنْ صَلّى وصامَ؟ فقال: وإنْ صَلّى وصامَ، فادْعوا بِدَعْوى اللهِ التي سَماكُمُ المُسْلمينَ المُؤْمِنينَ، عِبادَ اللهِ". اهـ

قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ غريبٌ.


- شرح غريب الكلمات:

(1) بيت المقدس، هو المسجد الأقصى، وبه الصخرة، وهي قبلة اليهود والنصارى من قبل، وهي قبلة إبراهيم وإسماعيل وإسحاق ويعقوب وبني إسرائيل، وإليها أمر النبي صلى الله عليه وسلم أن يستقبل في صلاته، حتى صرف الله القِبَلة ببركة دعاء النبي صلى الله عليه وسلم، إلى الكعبة المشرَّفة، فهي قِبلة المسلمين إلى قيام الساعة.

(2) الشُرَف، جمع: شُرْفَة، وهي كل موضع يشرف على غيره، كسور الاسطُح، والنوافذ، ونحو ذلك. وهذا الخبر يدلّ على أن بيت المقدس، كان فيه بناء، وله أسطح ونوافذ. أي: أنه قد كان بُني عليه مسجد.

موعظة النبي (ص) للمسلمين

 بسم الله الرحمن الرحيم

روى مسلم، واللفظ له، والبزّار، والطبراني في الأوسط، 

عَنْ عِيَاضِ بْنِ حِمَارٍ الْمُجَاشِعِيِّ: "أَنَّ رَسُولَ اللهِ ﷺ قَالَ ذَاتَ يَوْمٍ فِي خُطْبَتِهِ: أَلَا إِنَّ رَبِّي أَمَرَنِي أَنْ أُعَلِّمَكُمْ مَا جَهِلْتُمْ مِمَّا عَلَّمَنِي يَوْمِي هَذَا، كُلُّ مَالٍ نَحَلْتُهُ عَبْدًا حَلَالٌ، وَإِنِّي خَلَقْتُ عِبَادِي حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ، وَحَرَّمَتْ عَلَيْهِمْ مَا أَحْلَلْتُ لَهُمْ، وَأَمَرَتْهُمْ أَنْ يُشْرِكُوا بِي مَا لَمْ أُنْزِلْ بِهِ سُلْطَانًا، وَإِنَّ اللهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ فَمَقَتَهُمْ عَرَبَهُمْ وَعَجَمَهُمْ إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ. وَإِنَّ اللهَ أَمَرَنِي أَنْ أُحَرِّقَ قُرَيْشًا. فَقُلْتُ: رَبِّ إِذًا يَثْلَغُوا رَأْسِي فَيَدَعُوهُ خُبْزَةً. قَالَ: اسْتَخْرِجْهُمْ كَمَا اسْتَخْرَجُوكَ، وَاغْزُهُمْ نُغْزِكَ، وَأَنْفِقْ فَسَنُنْفِقَ عَلَيْكَ، وَابْعَثْ جَيْشًا نَبْعَثْ خَمْسَةً مِثْلَهُ، وَقَاتِلْ بِمَنْ أَطَاعَكَ مَنْ عَصَاكَ. قَالَ: وَأَهْلُ الْجَنَّةِ ثَلَاثَةٌ: ذُو سُلْطَانٍ مُقْسِطٌ مُتَصَدِّقٌ مُوَفَّقٌ، وَرَجُلٌ رَحِيمٌ رَقِيقُ الْقَلْبِ لِكُلِّ ذِي قُرْبَى وَمُسْلِمٍ، وَعَفِيفٌ مُتَعَفِّفٌ ذُو عِيَالٍ. قَالَ: وَأَهْلُ النَّارِ خَمْسَةٌ: الضَّعِيفُ الَّذِي لَا زَبْرَ لَهُ، الَّذِينَ هُمْ فِيكُمْ تَبَعًا لَا يَبْتَغُونَ أَهْلًا وَلَا مَالًا -  فَقُلْتُ(1) : فَيَكُونُ ذَلِكَ يَا أَبَا عَبْدِ اللهِ(2) ؟ قَالَ: نَعَمْ، وَاللهِ لَقَدْ أَدْرَكْتُهُمْ فِي الْجَاهِلِيَّةِ، وَإِنَّ الرَّجُلَ لَيَرْعَى عَلَى الْحَيِّ مَا بِهِ إِلَّا وَلِيدَتُهُمْ يَطَؤُهَا - وَالْخَائِنُ الَّذِي لَا يَخْفَى لَهُ طَمَعٌ وَإِنْ دَقَّ إِلَّا خَانَهُ، وَرَجُلٌ لَا يُصْبِحُ وَلَا يُمْسِي إِلَّا وَهُوَ يُخَادِعُكَ عَنْ أَهْلِكَ وَمَالِكَ. وَذَكَرَ الْبُخْلَ أَوِ الْكَذِبَ، وَالشِّنْظِيرُ الْفَحَّاشُ". اهـ

وفي رواية زاد: "وَإِنَّ اللهَ أَوْحَى إِلَيَّ أَنْ تَوَاضَعُوا حَتَّى لَا يَفْخَرَ أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ، وَلَا يَبْغِي أَحَدٌ عَلَى أَحَدٍ".


- الحاشية:

(1) القائل هنا هو مُطَرِّف.

(2) أبو عبدالله، هو عياض بن حمار الصحابي، رضي الله عنه.

موعظة الله تبارك وتعالى لعباده

بسم الله الرحمن الرحيم

روى مسلم، واللفظ له، وأحمد والترمذي وابن ماجه، باختلاف يسير:

عن أبي ذرّ الغفاري،عن النبي صلى الله عليه وسلم، فيما روى عن الله تبارك وتعالى أنه قال:

"يا عِبَادِي، إنِّي حَرَّمْتُ الظُّلْمَ علَى نَفْسِي، وَجَعَلْتُهُ بيْنَكُمْ مُحَرَّمًا، فلا تَظَالَمُوا، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ ضَالٌّ إلَّا مَن هَدَيْتُهُ، فَاسْتَهْدُونِي أَهْدِكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ جَائِعٌ إلَّا مَن أَطْعَمْتُهُ، فَاسْتَطْعِمُونِي أُطْعِمْكُمْ، يا عِبَادِي، كُلُّكُمْ عَارٍ إلَّا مَن كَسَوْتُهُ، فَاسْتَكْسُونِي أَكْسُكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ تُخْطِئُونَ باللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَأَنَا أَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا، فَاسْتَغْفِرُونِي أَغْفِرْ لَكُمْ، يا عِبَادِي، إنَّكُمْ لَنْ تَبْلُغُوا ضَرِّي فَتَضُرُّونِي، وَلَنْ تَبْلُغُوا نَفْعِي فَتَنْفَعُونِي، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَتْقَى قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ مِنكُمْ؛ ما زَادَ ذلكَ في مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لوْ أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، كَانُوا علَى أَفْجَرِ قَلْبِ رَجُلٍ وَاحِدٍ؛ ما نَقَصَ ذلكَ مِن مُلْكِي شيئًا، يا عِبَادِي، لو أنَّ أَوَّلَكُمْ وَآخِرَكُمْ وإنْسَكُمْ وَجِنَّكُمْ، قَامُوا في صَعِيدٍ وَاحِدٍ فَسَأَلُونِي، فأعْطَيْتُ كُلَّ إنْسَانٍ مَسْأَلَتَهُ؛ ما نَقَصَ ذلكَ ممَّا عِندِي إلَّا كما يَنْقُصُ المِخْيَطُ إذَا أُدْخِلَ البَحْرَ، يا عِبَادِي، إنَّما هي أَعْمَالُكُمْ أُحْصِيهَا لَكُمْ، ثُمَّ أُوَفِّيكُمْ إيَّاهَا، فمَن وَجَدَ خَيْرًا فَلْيَحْمَدِ اللَّهَ، وَمَن وَجَدَ غيرَ ذلكَ فلا يَلُومَنَّ إلَّا نَفْسَهُ". اهـ


رؤيا النبي (ص) في الكفّارات والدرجات

بسم الله الرحمن الرحيم

وحديثها روي بعدة روايات بعضها فيه زيادة وبعضها فيه نقصان، فجمعت بينها وأتممت بعضها من بعض، لأن زياداتها جميعا صحيحة.

روى ابن حنبل والترمذي والبزار، بأسانيدهم:

عن مُعاذِ بنِ جبلٍ، قال: "احتُبِسَ عَنَّا رسولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم ذاتَ غَدَاةٍ عن صلاةِ الصُّبحِ حتَّى كِدْنا نَتَراءَى عَينَ الشمس، فخَرَجَ سَريعًا، فثَوَّبَ بالصَّلاةِ، فصَلَّى رسولُ الله ﷺ وتَجوَّزَ في صَلاتهِ، فلمّا سَلّمَ دَعَا بِصَوتِه، فقال لنا: على مَصافِّكُم كما أنتُم. ثمَّ انفَتَلَ إلينا ثمَّ قال: أما إنِّي سَأُحدِّثُكُم ما حَبَسَنِي عنكم الغَدَاةَ: إنِّي قُمتُ من الليلِ فتَوضأْتُ، وصَلَّيتُ ما قُدِّرَ لي، فنَعَسْتُ في صلاتي، حتى استَثْقَلتُ، فإذا أنا بِرَبِّي في أحسنِ صُورَةٍ، فقال: يا محمّدُ، قُلتُ: لَبَّيكَ رَبِّ، قالَ: فِيمَ يَختَصِمُ المَلأُ الأعلى؟ قلتُ: لا أدْرِي ربِّ، قالها ثلاثًا، قال فرَأيْتُه وضَعَ كَفَّهُ بينَ كَتِفَيَّ حتَّى وجَدْتُ بَرْدَ أنامِلِه بينَ ثَدْيَيَّ، فتَجَلَّى لي كلُّ شيءٍ وعَرَفْتُ، فقال: يا محمّدُ، قلتُ: لَبَّيْكَ رَبِّ، قال: فِيمَ يَخْتَصِمُ المَلأُ الأعلى؟ قلتُ: في الكَفّارَاتِ وَ الدَّرَجَاتُ. قَاَل: وَمَا الْكَفَّارَاتُ؟ قُلْتُ: نَقْلُ الْأَقْدَامِ إِلَى الْجُمُعَاتِ، وَجُلُوسٌ فِي الْمَسَاجِدِ بَعْدَ الصَّلَواتِ، وَإِسْبَاغُ الْوُضُوءِ عِنْدَ الْكَرِيهَاتِ. قَالَ: وَمَا الدَّرَجَاتُ؟ قُلْتُ: إِطْعَامُ الطَّعَامِ، وَلِينُ الْكَلَامِ، وَالصَّلَاةُ باللَّيْلِ وَالنَّاسُ نِيَامٌ. قَالَ: سَلْ. قُلْتُ: اللهُمَّ إِنِّي أَسْأَلُكَ فِعْلَ الْخَيْرَاتِ وَتَرْكَ الْمُنْكَرَاتِ، وَحُبَّ الْمَسَاكِينِ، وَأَنْ تَغْفِرَ لِي وَتَرْحَمَنِي، وَإِذَا أَرَدْتَ فِتْنَةً فِي قَوْمٍ فَتَوَفَّنِي غَيْرَ مَفْتُونٍ، وَأَسْأَلُكَ حُبَّكَ وَحُبَّ مَنْ يُحِبُّكَ وَحُبَّ عَمَلٍ يُقَرِّبُنِي إِلَى حُبِّكَ. وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إِنَّهَا حَقٌّ فَادْرُسُوهَا وَتَعَلَّمُوهَا". اهـ

قال الترمذي: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ. وسألتُ محمدَ بنَ إسماعيلَ عن هذا الحديثِ، فقال: هذا حديثٌ حسنٌ صحيحٌ.

رؤيا النبي (ص) للمعذّبين والمنعَّمين

بسم الله الرحمن الرحيم

هذه رؤيا منام، رآها النبي صلى الله عليه وسلّم، في المعذّبين والمنعّمين، وقد رويت هذه الرؤيا بِعدَّة روايات، بينها اختلاف يسير، وبعضها فيه زيادة، وبعضها فيه نقصان، فأتمت بعضها من بعض، واخترت منها أجمل العِبارات وأتم السياقات، بما يترجّح عندي أنه من لفظ النبي صلى الله عليه وسلم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم قد أوتي من الفصاحة والبلاغة وجوامع الكَلِم، ما لم يؤتى أحدٌ من العالمين.

فقد روى ابن حنبل في مسنده، والبخاري في جامعه، والنسائي في سُننه الكُبرى، بأسانيدهم، عن سَمُرَة بن جُندُب الصحابي، رضي الله عنه، أنه قَال:

"كَانَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِذَا صَلَّى صَلَاةَ الْغَدَاةِ، أَقْبَلَ عَلَيْنَا بِوَجْهِهِ، فَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟ فَإِنْ كَانَ أَحَدٌ رَأَى تِلْكَ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا قَصَّهَا عَلَيْهِ، فَيَقُولُ فِيهَا مَا شَاءَ اللهُ أَنْ يَقُولَ، فَسَأَلَنَا يَوْمًا، فَقَالَ: هَلْ رَأَى أَحَدٌ مِنْكُمُ اللَّيْلَةَ رُؤْيَا؟ قَالَ: فَقُلْنَا: لَا، قَالَ: لَكِنْ أَنَا رَأَيْتُ اللَّيْلَةَ رَجُلَيْنِ أَتَيَانِي فَأَخَذَا بِيَدَيَّ، فَأَخْرَجَانِي إِلَى أَرْضٍ فَضَاءٍ، أَوْ أَرْضٍ مُسْتَوِيَةٍ، فَمَرَّا بِي عَلَى رَجُلٍ جَالِسٌ، وَرَجُلٌ قَائِمٌ، بِيَدِهِ كَلُّوبٌ(1) مِنْ حَدِيدٍ ، وَإِذَا هُوَ يَأْتِي أَحَدَ شِقَّيْ وَجْهِهِ فَيُشَرْشِرُ(2)  شِدْقَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَهُ إِلَى قَفَاهُ، ثُمَّ يَتَحَوَّلُ إِلَى الْجَانِبِ الْآخَرِ، فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِالْجَانِبِ الْأَوَّلِ، فَمَا يَفْرُغُ مِنْ ذَلِكَ الْجَانِبِ حَتَّى يَصِحَّ الْأَوَّلُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ بِهِ الْمَرَّةَ الْأُولَ. 

قُلْتُ: سُبْحَاَنَ الله، مَا هَذَاَنْ؟! قَاَلَا: اِنْطَلِقْ اِنْطَلِقْ.

قَالَ: فانطلقنا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ مُضْطَجِعٍ عَلَى قَفَاهُ (3)، وَإِذَا آخَرُ قَائِمٌ عَلَيْهِ بِصَخْرَةٍ، وَإِذَا هُوَ يَهْوِي بِالصَّخْرَةِ لِرَأْسِهِ فَيَثْلَغُ رَأْسَهُ، فَيَتَدَهْدَهُ الْحَجَرُ هَا هُنَا، فَيَتْبَعُ الْحَجَرَ فَيَأْخُذُهُ، فَلَا يَرْجِعُ إِلَيْهِ حَتَّى يَصِحَّ رَأْسُهُ كَمَا كَانَ، ثُمَّ يَعُودُ عَلَيْهِ فَيَفْعَلُ بِهِ مِثْلَ مَا فَعَلَ الْمَرَّةَ الْأُولَى.

قُلْتُ: سُبْحَاَنَ الله، مَا هَذَاَنْ؟! قَاَلَا: اِنْطَلِقْ اِنْطَلِقْ.

قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى بِنَاَءٍ مِثْلِ بِنَاَءِ التَّنُّورِ، أَعْلَاهُ ضَيِّقٌ وَأَسْفَلُهُ وَاسِعٌ، قَالَ: فَإِذَا فِيهِ لَغَطٌ وَأَصْوَاتٌ، قَالَ: فَاطَّلَعْنَا فِيهِ، فَإِذَا فِيهِ رِجَالٌ وَنِسَاءٌ عُرَاةٌ، وَإِذَا هُمْ يَأْتِيهِمْ لَهَبٌ مِنْ أَسْفَلَ مِنْهُمْ، فَإِذَا أَتَاهُمْ ذَلِكَ اللهَبُ ضَوْضَوْا، فَإِذَا اقْتَرَبَ ارْتَفَعُوا، حَتَّى يَكَادَوا أَنْ يَخْرُجُوا، فَإِذَا خَمَدَتْ رَجَعُوا فِيهَا.

قُلْتُ: مَاَهَؤُلَاَء؟! قَاَلَا: اِنْطَلِقْ اِنْطَلِقْ.

قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى نَهَرٍ أَحْمَرَ مِثْلِ الدَّمِ، وَإِذَا فِي النَّهَرِ رَجُلٌ سَابِحٌ يَسْبَحُ، وَإِذَا عَلَى شَطِّ النَّهَرِ رَجُلٌ قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ حِجَارَةً كَثِيرَةً، وَإِذَا ذَلِكَ السَّابِحُ، يَسْبَحُ مَا يَسْبَحُ، ثُمَّ يَأْتِي ذَلِكَ الَّذِي قَدْ جَمَعَ عِنْدَهُ الْحِجَارَةَ، فَيَفْغَرُ لَهُ فَاهُ فَيُلْقِمُهُ حَجَرًا فَيَنْطَلِقُ يَسْبَحُ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِ، كُلَّمَا رَجَعَ إِلَيْهِ فَغَرَ لَهُ فَاهُ فَأَلْقَمَهُ حَجَرًا. 

قُلْتُ: مَا هَذَانِ؟! قَالَا: انْطَلِقِ انْطَلِقْ.

قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَجُلٍ كَرِيهِ الْمَرْآةِ، كَأَكْرَهِ مَا أَنْتَ رَاءٍ رَجُلًا مَرْآةً، وَإِذَا عِنْدَهُ نَارٌ يَحُشُّهَا وَيَسْعَى حَوْلَهَا(4).

قُلْتُ: مَا هَذَا؟ قَالَا: انْطَلِقِ انْطَلِقْ.

قَالَ: فَانْطَلَقْنَا، فَأَتَيْنَا عَلَى رَوْضَةٍ مُعْتَمَّةٍ، فِيهَا مِنْ كُلِّ نَوْرِ(5) الرَّبِيعِ، وَإِذَا بَيْنَ ظَهْرَيِ الرَّوْضَةِ رَجُلٌ طَوِيلٌ، لَا أَكَادُ أَرَى رَأْسَهُ طُولًا فِي السَّمَاءِ، وَإِذَا حَوْلَ الرَّجُلِ مِنْ أَكْثَرِ وِلْدَانٍ رَأَيْتُهُمْ قَطُّ. 

قُلْتُ: مَا هَذَا؟! مَا هَؤُلَاءِ؟! قَالَا: انْطَلِقِ انْطَلِقْ. 

قَالَ: فَانْطَلَقْنَا فَأَتَيْنَا عَلَى دَوْحَةٍ(6) عَظِيمَةٍ، لَمْ أَرَ دَوْحَةً قَطُّ أَعْظَمَ مِنْهَا وَلَا أَحْسَنَ، قَالَا لِي: ارْقَ فِيهَا، فَارْتَقَيْنَا، فَانْتَهَيْنَا إِلَى مَدِينَةٍ مَبْنِيَّةٍ بِلَبِنٍ ذَهَبٍ وَلَبِنٍ فِضَّةٍ، فَأَتَيْنَا بَابَ الْمَدِينَةِ فاستفتحنا، فَفُتِحَ لَنَا، فَدَخَلْنَاهَا، فَتَلَقَّانَا فِيهَا رِجَالٌ شَطْرٌ مِنْ خَلْقِهِمْ كَأَحْسَنِ مَا أَنْتَ رَاءٍ وَشَطْرٌ كَأَقْبَحِ مَا أَنْتَ رَاءٍ، قَالَا لَهُمْ: اذْهَبُوا فَقَعُوا فِي ذَلِكَ النَّهْرِ، وَإِذَا نَهْرٌ مُعْتَرِضٌ يَجْرِي كَأَنَّ مَاءَهُ الْمَحْضُ فِي الْبَيَاضِ، فَذَهَبُوا فَوَقَعُوا فِيهِ، ثُمَّ رَجَعُوا إِلَيْنَا قَدْ ذَهَبَ ذَلِكَ السَّوْءُ عَنْهُمْ وَصَارُوا فِي أَحْسَنِ صُورَةٍ.

[فَأَخْرَجَانِي مِنْهَا](7) فَصَعِدَا بِي فِي الشَّجَرَةِ، وَأَدْخَلَانِي دَارًا، لَمْ أَرَ قَطُّ أَحْسَنَ مِنْهَا، فِيهَا رِجَالٌ شُيُوخٌ، وَشَبَابٌ وَنِسَاءٌ وَصِبْيَانٌ.

فَأَخْرَجَانِي مِنْهَا، فَصَعِدَا بِي الشَّجَرَةَ، فَأَدْخَلَانِي دَارًا، هِيَ أَحْسَنُ وَأَفْضَلُ، فِيهَا شُيُوخٌ وَشَبَابٌ.

فَقُلْتُ لَهُمَا: إِنَّكُمَا قَدْ طَوَّفْتُمَانِي مُنْذُ اللَّيْلَةِ، فَأَخْبِرَانِي عَمَّا رَأَيْتُ، فَقَالَا: نَعَمْ.

أَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُشَرْشَرُ شِدْقُهُ إِلَى قَفَاهُ، وَعَيْنَاهُ إِلَى قَفَاهُ، وَمَنْخِرَاهُ إِلَى قَفَاهُ، فَإِنَّهُ الرَّجُلُ يَغْدُو مِنْ بَيْتِهِ، فَيَكْذِبُ الْكَذِبَةَ تَبْلُغُ الْآفَاقَ.

وأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي أَتَيْتَ عَلَيْهِ يُثْلَغُ رَأْسُهُ بِالْحَجَرِ، فَإِنَّهُ رَجُلٌ يَأْخُذُ الْقُرْآنَ فَيَرْفُضُهُ، وَيَنَامُ عَنِ الصَّلَاةِ الْمَكْتُوبَةِ.

وَأَمَّا الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ الْعُرَاةُ الَّذِينَ فِي بِنَاءٍ مِثْلِ بِنَاءِ التَّنُّورِ، فَإِنَّهُمُ الزُّنَاةُ وَالزَّوَانِي.

وَأَمَّا الرَّجُلُ الَّذِي يَسْبَحُ فِي النَّهَرِ، وَيُلْقَمُ الْحِجَارَةَ، فَإِنَّهُ آكِلُ الرِّبَا. 

وَأَمَّا الرَّجُلُ الْكَرِيهُ الْمَرْآةِ الَّذِي عِنْدَ النَّارِ يَحُشُّهَا، فَإِنَّهُ مَالِكٌ خَازِنُ جَهَنَّم.

وَأَمَّا الرَّجُلُ الطَّوِيلُ الَّذِي رَأَيْتَ فِي الرَّوْضَةِ، فَإِنَّهُ إِبْرَاهِيمُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَأَمَّا الْوِلْدَانُ الَّذِينَ حَوْلَهُ، فَكُلُّ مَوْلُودٍ مَاتَ عَلَى الْفِطْرَةِ(8)، قَالَ: فَقَالَ بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: وَأَوْلَادُ الْمُشْرِكِينَ. 

وَأَمَّا الْقَوْمُ الَّذِينَ كَانَ شَطْرٌ مِنْهُمْ حَسَنًا وَشَطْرٌ قَبِيحًا، فَإِنَّهُمْ قَوْمٌ خَلَطُوا عَمَلًا صَالِحًا، وَآخَرَ سَيِّئًا، فَتَجَاوَزَ اللهُ عَنْهُمْ.

وَالدَّارُ الْأُولَى الَّتِي دَخَلْتَ، دَارُ عَامَّةِ الْمُؤْمِنِينَ، وَأَمَّا هَذِهِ الدَّارُ فَدَارُ الشُّهَدَاءِ.

وَأَنَا جِبْرِيلُ، وَهَذَا مِيكَائِيلُ، فَارْفَعْ رَأْسَكَ، فَرَفَعْتُ رَأْسِي، فَإِذَا فَوْقِي قَصْرٌ مِثْلُ الرَّبَابَةِ(9) الْبَيْضَاءِ، قَالَا: ذَاكَ مَنْزِلُكَ، قُلْتُ: دَعَانِي أَدْخُلْ مَنْزِلِي، قَالَا: إِنَّهُ بَقِيَ لَكَ عُمُرٌ لَمْ تَسْتَكْمِلْهُ، فَلَوِ اسْتَكْمَلْتَ أَتَيْتَ مَنْزِلَكَ.


- شرح غريب الِكلمات:

(1) الكَلُّوب، وجمعه: كَلَاَلِيب، قضيب قصير من حديد، معكوف الرأس، ورأسه المعكوف طرف مُدّبَّب، يستخدم لشق وتمزيق الأشياء، أو تعليقها عليه.

(2) يشرشر، أي: يشقه شقاً مُنكراً، بحيث يتمزق اللحم أثناء شقه، وليس كالسكين، يقطع اللحم بشكل منتظم.

(3) أي: مستلقٍ على ظهره.

(4) في بعض الروايات أن هذه النار كانت في وسط الروضة، وهذا وهمٌ من الراوي، فالروضة تدل على النعيم، والنار على الجحيم، فلا  يكون الجحيم في وسط النعيم.

(5) نَوْر الربيع، أي: نباته وزهره وورده.

(6) الدوحة، هي الشجرة الكبيرة.

(7) ما بين المعقوفتين، زيادة يقتضيها السياق، وهي زيادة من اصل الحديث.

(8) أي: أنه مات قبل أن يفصح الكلام، ويبلغ سن التمييز، وبهذا يكون قد مات على الفِطرة، وهي الإسلام والتوحيد، فيكون من أهل الجنَّة بإذن الله.

(9) الربابة، هي: السحابة.